جنيف تزهو بصيفها النابض على ضفة بحيرة ليمان

9 أغسطس 2023
جنيف تزهو بصيفها النابض على ضفة بحيرة ليمان

جنيف تزهو بصيفها النابض على ضفة بحيرة ليمان

هي سيدة البطاقات البريدية لجنيف، وحافظة أسطورتها. لا تنازعها الحديقة الإنجليزية ولا قصر الأمم المتحدة ولا كنيسة سان بيار ولا جدار رواد الإصلاح الذين ألهموا استقلال جنيف وهويتها السياسية والثقافية. هي قطب جاذبية المكان والمحج الذي يقصده الزوار ليكون دليل رحلتهم السويسرية ونشوة الحنين إلى الوجهة الثمينة التي تدغدغ مخيلة الناس عبر العالم.

والحال أن المعلمة سليلة الصدفة، والضرورة معا. كانت حلا هندسيا لتنفيس الضغط في المنشأة المائية المقامة نهاية القرن التاسع عشر لتزويد الصناعات المزدهرة في المنطقة. فوهة تضخ في الفضاء دفقا على مدى 30 مترا كانت تفي بالغرض، لكن بصيرة القائمين على المدينة تخيلوا وظيفة أخرى للموقع الذي أصبح ابتداء من 1891 مركز الدينامية السياحية لجنيف الناهضة. توارت الوظيفة الأصلية ومع حلول 1951، تضاعفت قدرة الضخ المائية لتطول 140 مترا بقوة دفع تناهز 200 كلم في الساعة، وبصبيب 500 لتر في الثانية.

يراد للموقع أن يحتفظ بسره وتقاليده. تشرف عليه مؤسسة “الخدمات الصناعية لجنيف” التي توزع الماء والكهرباء والغاز محليا. يديره 5 متقاعدين من المؤسسة، تطوعا ومواطنة، يتولون صيانته ومواءمته مع الظروف المناخية ويلونون خرطومه في الاحتفالات والأعياد، ليكون وجها لابتسامة جنيف وحيويتها. وحين يقتضي الأمر توقيف الضخ لدواع تقنية، ينزل صمت ثقيل على المكان والناس. يحزن النادل الروماني في مقصف “دولتشي فيتا” لأن هدير التيار المائي إيقاع ألفه وهو يسابق طلبات الزبائن الذين يحولون الوجهة في يوم “كئيب” مثل هذا.

بحيرة ليمان امتداد شاسع تطاولت على ضفتيها الفرنسية والسويسرية مدن وقرى، لكن النافورة العملاقة ركن التميز الذي يفخر به أهل جنيف، وتستند عليه سلطاتها لخلق مركز إشعاع سياحي يبلغ ذروته صيفا. يضيء الفنار ليهدي السفن سواء السبيل، ويحمر الشفق فوق الجبال المحيطة بالمنطقة ليبدأ ليل صيفي بكل ألوان الطيف على الممر الإسفلتي النابض.

يصدع بوق سفينة “الرون” السياحية البخارية مستعجلا ركابه لرحلة موغلة تجوب البحيرة. الرون اسم النهر المتاخم الذي يزهر خضرة في مناطق واسعة من غرب أوروبا، لكن قليلا من الركاب السعداء بتصوير المدينة فوق الماء، وبإطعام البجعات البيضاء، لا يعرفون أن المركب ورث اسما ملعونا في تاريخ الملاحة النهرية بسويسرا. فمركب “الرون” هو تيتانيك هذه البلاد حينما قضى عليه غرقا 11 شخصا ذات يوم من 1883 على إثر اصطدام بمركب آخر، لتجثم بقاياه في قعر سحيق بين لوزان السويسرية وإيفيان الفرنسية. إحياء اسمه رسالة تتعمدها ذهنية سويسرية ترفع تحدي الاستمرارية وتحفظ الذاكرة، حتى الأليمة منها… كي لا تتكرر.

على امتداد الرصيف، تختلط أصوات العابرين ناطقة بكل لغات العالم. التعددية الثقافية والعرقية أمر واقع في المكان، والابتسامات “الكونية” المتبادلة بين الناس من عرب وعجم كفيلة بتجاوز ما تعجز عنه الكلمات. حتى الشاب الإفريقي الوافد الذي يفرش بضاعة من أساور جلدية مفتولة وأقراط وقلائد فضية يعول على ضحكته المنطلقة وكلمات منتزعة من قواميس اللغات الرائجة لعقد صفقات صغيرة مع المشائين.

لا بحر في البلاد المحشورة بين كبار القارة، لكن الإرادة الناهضة صنعت شاطئا ورسمت له اسما: شاطئ جنيف. اصطفت مراكب ويخوت صغيرة على الرصيف، تمت تهيئة مساحة للاصطياف، وروعي جيب رملي يهون على الزوار ما ضنت به الطبيعة، واصطفت أكشاك ومقاهي متنقلة بإيقاع موسمي. كأن الصيف قرار إداري في جنيف.

يفرح العابرون بالرذاذ الذي يرطب وجوههم، حين تهب الريح صوب كورنيش البحيرة. يتوغل بعضهم في الرصيف الذي يشق الماء ليشهدوا نقطة انبجاس هذه النافورة العملاقة التي تناطح السماء ثم تتهاوى أذرعها المتجددة منهكة مشتتة على سطح البحيرة، فيتبدد ما يشبه سحبا من دخان.
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.